فضرب بالسيف على عاتقه فجرحه حتى حمله المسلمون، ولكن انقض أبو دجانة - البطل المغامر ذو العصابة الحمراء - على عبد اللَّه بن جابر، فضربه بالسيف ضربة أطارت رأسه. وأثناء هذا القتال المرير، كان المسلمون يأخذهم النعاس أمنة من اللَّه، كما تحدث عنه القرآن. قال أبو طلحة كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مراراً، يسقط وآخذه، ويسقط وآخذه. وبمثل هذه البسالة بلغت هذه الكتيبة - في انسحاب منظم - إلى شعب الجبل وشق لبقية الجيش طريقاً إلى هذا المقام المأمون، فتلاحق به في الجبل، وفشلت عبقرية خالد أمام عبقرية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . مقتل أبي بن خلف: قال ابن إسحاق فلما أسند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول أين محمد لا نجوتُ إن نجا؟ فقال القوم يا رسول اللَّه أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دعوه، فلما دنا منه تناول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله، وأبصر ترقوته من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه فيها طعنة تدأدأ - تدحرج - منها عن فرسه مراراً. فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير، فاحتقن الدم قال: قتلني واللَّه محمد، قالوا له ذهب واللَّه فؤادك، واللَّه إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك فواللَّه لو بصق علي لقتلني، فمات عدو اللَّه بسرف وهم قافلون به إلى مكة وفي رواية أبي الأسود عن عروة أنه كان يخور خوار الثور ويقول والذي نفسي بيده لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعاً. طلحة ينهض بالنبي صلى الله عليه وسلم : وفي أثناء انسحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الجبل عرضت له صخرة من الجبل، فنهض إليها ليعلوها، فلم يستطع، لأنه كان قد بدن وظاهر بين الدرعين وقد أصابه جرح شديد. فجلس تحته طلحة بن عبيد اللَّه، فنهض به حتى استوى عليها وقال: أوجب طلحة، أي الجنة. آخر هجوم قام به المشركون: ولما تمكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مقر قيادته في الشعب قام المشركون بآخر هجوم حاولوا به النيل من المسلمين. قال ابن إسحاق بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الشعب إذ علت عالية من قريش الجبل - يقودهم أبو سفيان وخالد بن الوليد - فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اللهم إنه لا ينبغي لهم أن يعلونا، فقاتل عمر بن الخطاب ورهط معه من المهاجرين حتى أهبطوهم من الجبل. وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لسعد أجبنهم - يقول ارددهم - فقال: كيف أجبنهم وحدي؟ فقال ذلك ثلاثاً، فأخذ سعد سهماً من كنانته، فرمى به رجلاً فقتله، قال: ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر، فقتلته، ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم، فقلت هذا سهم مبارك،فجعلته في كنانتي، فكان عند سعد حتى مات، ثم كان عند بنيه. تشويه الشهداء: وكان هذا آخر هجوم قام به المشركون ضد النبي صلى الله عليه وسلم . ولما لم يكونوا يعرفون من مصيره شيئاً - بل كانوا على شبه اليقين من قتله - رجعوا إلى مقرهم، وأخذوا يتهيأون للرجوع إلى مكة، واشتغل من اشتغل منهم - وكذا اشتغلت نساؤهم - بقتلى المسلمين، يمثلون بهم، ويقطعون الآذان والأنوف والفروج، ويبقرون البطون. وبقرت هند بنت عتبة كبد حمزة، فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها، واتخذت من الآذان والأنوف خدماً - خلاخيل - وقلائد. مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال حتى نهاية المعركة: وفي هذه الساعة الأخيرة وقعت وقعتان تدلان على مدى استعداد أبطال المسلمين للقتال، ومدى استماتتهم في سبيل اللَّه. 1. قال كعب بن مالك: كنت فيمن خرج من المسلمين، فلما رأيت تمثيل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يجوز المسلمين وهو يقول استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم. وإذا رجل من المسلمين ينتظره، وعليه لأمته. فمضيت حتى كنت من ورائه، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة. فلم أزل انتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال: كيف ترى يا كعب؟ أنا أبو دجانة. 2. جاءت نسوة من المؤمنين إلى ساحة القتال بعد نهاية المعركة، قال أنس لقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان - أرى خدم سوقهما - تنقزان القرب على متونهما تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنهما، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم. وقال عمر كانت أم سليط تزفر لنا القرب يوم أحد. وكانت في هؤلاء النسوة أم أيمن، إنها لما رأت فلول المسلمين يريدون دخول المدينة، أخذت تحثو في وجوههم التراب، وتقول لبعضهم هاك المغزل، وهلم سيفك. ثم سارعت إلى ساحة القتال، فأخذت تسقي الجرحى، فرماها حبان (بالكسر) ابن العرقة بسهم، فوقعت وتكشفت، فأغرق عدو اللَّه في الضحك، فشق ذلك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له، وقال: ارم به، فرمى به سعد، فوقع السهم في نحر حبان، فوقع مستلقياً حتى تكشف، فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقاد لها سعد، أجاب اللَّه دعوته. بعد انتهاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الشعب: ولما استقر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في مقره من الشعب خرج علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه حتى ملأ درقته ماء من المهراس - قيل: هو صخرة منقورة تسع كثيراً وقيل: اسم ماء بأحد - فجاء به إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجد له ريحاً فعافه، فلم يشرب منه وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول اشتد غضب اللَّه على من دمى وجه نبيه. وقال سهل واللَّه إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ومن كان يسكب الماء وبما دووي؟ كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير، فأحرقتها، فألصقتها، فاستمسك الدم. وجاء محمد بن مسلمة بماء عذب سائغ، فشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير. وصلى الظهر قاعداً من أثر الجراح، وصلى المسلمون خلفه قعوداً. شماتة أبي سفيان بعد نهاية المعركة وحديثه مع عمر: ولما تكامل تهيؤ المشركين للانصراف، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه. فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه - وكان النبي صلى الله عليه وسلم منعهم من الإِجابة - ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قيام الإِسلام بهم. فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم. فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو اللَّه إن الذين ذكرتهم أحياء. وقد أبقى اللَّه ما يسوءك. فقال: قد كان فيكم مثلة لم آمر بها ولم تسوءني. ثم قال: أعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبونه؟ فقالوا: فما نقول؟ قال: قولوا اللَّه أعلى وأجل. ثم قال: لنا العز ولا عزى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا اللَّه مولانا، ولا مولى لكم. ثم قال أبو سفيان أنعمت فعال، يوم بيوم بدر، والحرب سجال. فأجابه عمر، وقال: لا سواء، قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار. ثم قال أبو سفيان هلم إلي يا عمر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ائته فانظر ما شأنه؟ فجاءه، فقال له أبو سفيان أنشدك اللَّه يا عمر أقتلنا محمداً؟ قال عمر اللهم لا. وإنه ليستمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر. مواعدة التلاقي في بدر: قال ابن إسحاق ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى إن موعدكم بدر العام القابل. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل نعم هو بيننا وبينك موعد. التثبت من موقف المشركين: ثم بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون؟ وما يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل، وامتطو الإِبل فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا قد ركبوا الخيل وساقوا الإِبل فإنهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإِبل ووجهوا إلى مكة. تفقد القتلى والجرحى: وفرغ الناس لتفقد القتلى والجرحى بعد منصرق قريش، قال زيد بن ثابت: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أحد أطلب سعد بن الربيع. فقال لي إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له يقول لك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى، فأتيته وهو بآخر رمق، وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، فقلت يا سعد، إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام. ويقول لك أخبرني كيف تجدك؟ فقال: وعلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قل له يا رسول اللَّه أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند اللَّه إن خلص إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، وفاضت نفسه من وقته. ووجدوا في الجرحى الأصيرم - عمرو بن ثابت - وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإِسلام فيأباه، فقالوا: إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر، ثم سألوه ما الذي جاء بك؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإِسلام؟ فقال: بل رغبة في الإِسلام، آمنت باللَّه ورسوله، ثم قاتلت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون، ومات من وقته، فذكروه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: هو من أهل الجنة. قال أبو هريرة ولم يصل للَّه صلاة قط. ووجدوا في الجرحى قزمان - وكان قد قاتل قتال الأبطال، قتل وحده سبعة أو ثمانية من المشركين - وجدوه قد أثبتته الجراحة، فاحتملوه إلى دار بني ظفر، وبشره المسلمون فقال: واللَّه إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قتلت فلما اشتد به الجراح نحر نفسه. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول، إذا ذكر له إنه من أهل النار - وهذا هو مصير المقاتلين في سبيل الوطنية أو في أي سبيل سوى إعلاء كلمة اللَّه، وإن قاتلوا تحت لواء الإِسلام، بل وفي جيش الرسول والصحابة. وعلى عكس من هذا كان في القتلى رجل من يهود بني ثعلبة،